الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين) متفق عليه.
اعلم يا أخي.. أن غلق أبواب النار في رمضان حقيقة لا تحتاج إلى تأويل، وهذه نعمة عظيمة ومنة كريمة من الله، يتفضل بها على عباده في هذا الشهر.
قال تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)(الزمر:71)، إنها النار.. التي رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحطم بعضها بعضاً، والتي قال عنها لما رآها: (لم أر منظراً كاليوم قط أفظع) رواه البخاري.
وقال عنها -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قالوا وما رأيت يا رسول الله قال رأيت الجنة والنار) رواه مسلم.
إنها النار.. التي لما خلقت فزعت الملائكة حتى طارت أفئدتها.
قال ميمون بن مهران، لما خلق الله جهنم: "أمرها فزفرت زفرة فلم يبق في السموات السبع ملك إلا خر على وجهه، فقال لهم الجبار: ارفعوا رؤوسكم، أما علمتم أني خلقتكم لطاعتي وعبادتي، وخلقت جهنم لأهل معصيتي من خلقي".
إنها النار.. التي ينغمس فيها أنعم أهل الدنيا لحظة، فتنسيه كل نعيم رآه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط) رواه مسلم.
إنها النار.. التي أعد الله فيها من العذاب الشديد لأهلها ما أعد؛ قال -تعالى-: (إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ)(غافر:71)، وقال -تعالى-: (وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ)(الحج:21)، وقال تعالى: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ)(الحاقة:30-32)، وقال -تعالى-: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً . وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً)(المزمل:12-13)، وقال -تعالى-: (كَلا إِنَّهَا لَظَى . نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى)(المعارج:15-16)، وقال -تعالى-: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ . لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ . لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ)(المدثر:27-29)، وقال -تعالى-: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ . نَارٌ حَامِيَةٌ)(القارعة:10-11).
أخي.. هل سمعت عن حسرة أهل النار وندمهم ودعائهم على أنفسهم بالويل والثبور وهم يعذبون في النار؟
فعندما يرى أهل النار، النار يندمون أشد الندم، ولات ساعة مندم: (وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)(يونس:54).
وعندما يصلى أهل النار النار يدعون على أنفسهم بالويل والهلاك: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً . لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)(الفرقان:13-14).
وهناك يعلوا صراخهم ويشتد عويلهم، ويدعون ربهم آملين أن يخرجهم من النار: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)(فاطر:37).
وهم يعترفون في ذلك الوقت بضلالهم وكفرهم وقلة عقولهم: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ . فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ)(الملك:10-11).
ولكن طلبهم يرفض بشدة، ويجابون بما تستحق أن تجاب به الأنعام: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ . رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ . قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُون)(المؤمنون:106-108).
لقد حق عليهم القول وساروا إلى المصير الذي لا ينفع معه دعاء ولا يقبل فيه رجاء (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ . وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ . فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(السجدة:12-14).
ويتوجه أهل النار بعد ذلك بالنداء إلى خزنة النار، يطلبون منهم أن يشفعوا لهم كي يخفف الله عنهم شيئا مما يعانونه (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ)(غافر:49-50).
وعند ذلك يسألون الشفاعة كي يهلكهم ربهم (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ)(الزخرف:77).
إنه الرفض لكل ما يطلبون، لا خروج من النار، ولا تخفيف من عذابها، ولا إهلاك بل هو العذاب الأبدي، ويقال لهم آنذاك: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(الطور:16).
هناك يشتد نحيبهم، وتفيض دموعهم، ويطول بكاؤهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم جرت و إنهم ليبكون الدم) رواه الحاكم، وحسنه الألباني.
لقد خسر هؤلاء الظالمون أنفسهم وأهليهم عندما استحبوا الكفر على الإيمان، واستمع إلى عويلهم وهم يرددون حال العذاب: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا . رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)(الأحزاب:66-68).
فيا أيها الغافل عن نفسه.. دع التفكر فيما أنت مرتحل عنه، واصرف الفكر إلى موردك فإنك أخبرت بأن النار مورد الجميع، إذ قال -تعالى-: (وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً)(مريم:71)، فأنت على الورود على يقين، ومن النجاة في شك، فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد، فعساك تستعد للنجاة منه.
فيا عجباً ندري بنار وجنــــة وليس لذي نشتاق أو تلك نحذر
إذا لم يكـن خوف وشــــــوق فماذا بقي فينا من الخيـــر يذكر
فاللهم اكتبنا من عتقائك من النار في رمضان.